الشعائر بين الإساءة والإتجار…

حضرني، وأنا أتلقَّى سُباب الصبيان، وافتراءات محركيهم، إثر مقالة رمتهم بطلب الشهرة، حذَّرت منهم، وطالبت بالتزام الأصالة في إحياء الشعائر الحسينية… ما تعرَّض له العالم الرباني الكبير الفاضل الدربندي قُدس سره، على يد البابية عند ظهورهم في كربلاء، حين دهموا داره وحاولوا اغتياله، فدافع عن نفسه، ما ألحق جراحاً بالغة في وجهه… فهان الخطب وكانت السلوة، فما أنا أمام ذاك الطود العظيم إلَّا كخادم يحمل له إبريق وضوئه، وصبيٍّ يكنس داره ويُصلح متاعه. ثم كان البلسم في “أُخرى تحبونها” جاءت في التأييد الذي لقيت من العلماء، وفيهم أساتذة حوزة وفضلاء من أعمدة الأصالة وقلاع الشعائر وحصون الولاء، يثنون ويدعون، ويطالبون بالاستمرار في ملاحقة الظاهرة، وردم الصدع الذي تُحدثه في جبهة الشعائر، وسدِّ الثغرة التي يتوغَّل منها الأعداء.

هناك حالات يضطر فيها المرء إلى التنزِّل في الخطاب، وتجاوز الاستدلال العلمي التام، بسوق الحجج الشرعية والبراهين الفكرية، إلى التمثيل أو التشبيه وأدنى حدود التعريف… لذا يُقدَّم الأمر هنا بشكل تساؤل بسيط: هل يمكن أن نفرض وقوع اختراق للحوزة العلمية الشيعية أم لا؟ هل من العقل أن يسعى العدو، بشتى مُسمَّياته وعناوينه، الخارجي الكافر والناصب، أو الداخلي الحداثوي والحزبي، للنفوذ في حوزاتنا العلمية أم لا؟ هل يعمد لصنع أو تعويم “مراجع تقليد” ينفِّذون فكرته ويحققون غرضه أم لا؟ أليس هناك اليوم “أدعياء” يحظون بتمويل مالي وغطاء إعلامي ودعم سياسي إقليمي وعالمي؟ ترى من أين جاء الحبتري ومَن صنع اليعقوبي وأبرز الصرخي وأظهر البديري، وآخرين؟ وإن لم يشكِّل الأمر في واقعه خرقاً أو نفوذاً، فهؤلاء مكشوفون في الحوزة، مفضوحون عند أبنائها ورجالها، ولكن ألا تراهم يشكِّلون إغواءً للعوام، ومادة لخلق الفتنة والفوضى، تربك الساحة الإيمانية وتشوِّش الصورة الشيعية؟ ثم من بعد الحوزة والمرجعية، ألا يصحُّ افتراض أنَّ العدو يعمل على اختراق أقوى جبهة يتمتع بها التشيُّع وأعظم سلاح يحمله، أي الإرتباط بسيد الشهداء والتزام الشعائر الحسينية؟

بعد الجواب على هذا السؤال، وهو عند جميع العقلاء: نعم، إنه يسعى ويبذل قصارى جهده للتوغل والنفوذ، ويعمد إلى ما يشوِّه الشعائر ويضرها ويتلفها ويسقطها عن دورها الإلهي المنظور. والسؤال التالي الذي يلحق الأول تلقائياً: كيف عساه أن يفعل ذلك، وبأي الطرق والوسائل؟

لسنا في وارد كيل التهم، ولكننا في موقع التشكيك في كلِّ جديد مبتدَع (ومن الغريب أن يحسب بعضهم رفض البدع من مختصَّات الوهابية!)، وفي الكافي الشريف: “كلُّ بدعة ضلالة، وكل ضلالة سبيلها إلى النار”. وفي نهج البلاغة: “وما أُحدثت بدعة إلا تُركت بها سُنَّة، فاتقوا البدع، والزموا المهيَع، إنَّ عوازم الأُمور أفضلها، وإن محدَثاتها شرارها”. وعن الباقر عليه السلام قال: “أيما عبد من عباد الله سنَّ سُنَّة هدى، كان له مثل أجر مَن عمِل بذلك، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، وأيما عبد من عباد الله سنَّ سُنَّة ضلال، كان عليه مثل وزر مَن فعل ذلك، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء”… من هنا نتوقف عند “محدَثات” أنماط العزاء، نرتاب في قائدها وسائقها، ونشكُّ في راكبها ومروِّجها، ونحتار في اندفاعٍ وأداء يفتقد التوازن والرصانة، ونهجٍ وطريقة تجانب الوقار والرزانة. لا بدعوى أنها بدَعٌ بالمصطلح الشرعي لتكون كلُّها محرَّمة، بل من منطلق تقييم فكري وقراءة اجتماعية وتحليل سياسي للحركة، يطرح المحدَثات على مائدة البحث، والنظر في المصلحة منها والمفسدة المترتبة عليها.

ذلك أن المضمون المأمون من أنماط الشعائر الحسينية، هو التراث المُستقى من الآباء والأجداد، الممضى بالتجربة الممتدة والممارسة المثبتة، المزكَّى بسيرة العلماء والتزام الصلحاء. هذا هو “المهيع” المأمون المضمون. يقابله جديد مبتَدع مختَرع، تحوم حوله الشكوك والشبهات، ولا يحمل أربابه في إثبات صحَّته وأحقيَّته، إلا الإغراق في الممارسة والمبالغة في الفعل (وهذه الصوفية تمتثل أمامك بالتفوُّق في العبادة والإفراط في الزهادة)! من الصعوبة بمكان أن نركن إلى نزاهة هذه المحدَثات، ونفصلها عن دور وفعل الدخلاء، ولا سيما أننا نلمس رعاية غريبة لها، ودفاعاً مستميتاً عنها، واحتضاناً خرافياً يتيح لها فُرَصاً ويوفِّر إمكانيات لا تتيسر لأي نطاق آخر من نطاقات التشيُّع! شأنها شأن مشروع المراجع المزيفين، سواء في الدعم الذي يلقون، أو في القفز على الحوزة وإمضائها. بل ما زال أربابها يلوِّحون بعصا التشنيع والتهويل على كل مَن يجاهر بالتحفَّظ على أدائهم، ويمارسون إرهاباً فكرياً مبتذلاً، خلق موجبات للتقية، وحمل العلماء على السكوت حذر الهتك والتشويه والتسقيط! وقد نشر أحدهم رسماً كاريكاتيرياً لحمار يربض على كومة كتب، معرِّضاً بعالم جليل نهض بالدفاع عن المذهب وقصم ظهر فضل الله في قضية الزهراء، لأنَّ تحقيقاته لم تثبت وجود ابنة للحسين باسم رقية عليها السلام، (دون أن ينكر قبرها)! ثم تراهم ـ وهذا من أعظم أسباب الريبة فيهم ـ في جبهة ردِّ الضلاليين ومواجهة الحداثيين الذين يعملون على هدم المذهب من أساسه، واقتلاع الشعائر من جذورها، خامدين هامدين، لا يعبأون بما يجري ولا يكترثون بما يدور! بل فيهم مَن يتعاون مع المضلين، يحتضنهم ويروِّج لهم! متجاهلين أن الشعائر الحسينية في كثير من مفرداتها كما هي موضوعية فهي طريقية، فبعد أداء العزاء وتحقُّقه في نفسه، هناك حفظ المذهب والذوْد عن العقيدة والدفاع عن الولاء لآل محمد. ولكنهم يتعامون عن ذلك، لأن التزامه والعمل به سيخلق أولويات، وتترتب عليه واجبات، تضيِّع تطلعاتهم للشهرة، وتهدم آمالهم بالصيت والسمعة، فلا يعودون هم الرموز التي تجتذب الأضواء. ثم إن خوض هذه المعارك والدخول في صراعات من هذه الطبيعة قد يوقظ الأتباع المستغفَلين وينبِّههم لحقيقة الضلال الذي يعيشونه!

وبعد، فإن عزاء “الشور” في صورته الأصلية، شعيرة محترمة بل مقدَّسة، وقد ذكرتها في كتابي “الوصايا العشر” ، وهي شعيرة أفتخر بها وأُمارسها، وأُساهم ـ بما مكَّنني ربي ـ في هيئات تقيمها، بل أتبرك بالعرق الذي ينضح من وجوه اللاطمين، والدموع التي تترقرق من عيون الباكين، وطالما اتخذتها إكسيراً للشفاء، وحرزاً يدفع البلاء، لا كلام في هذا ولا مزيد، إنما التحفظ على دخول جماعات مريبة، تتفاوت في خطرها من ادعاء السفارة المهدوية، إلى المرجعية المزيفة والحزبية، إلى دكاكين الإتجار الشخصي والانتفاع المادي، وقد اتخذَت “الشور” سلعة وبالغت فيه حتى انقلب من شكله الأصلي إلى أنماط جديدة مبتدعة، بلغت مؤخراً أو أفسحت لما يسمى بـ “عزاء الراب”. كما فعلت في التطبير الذي جعلته في غير عاشوراء، ولعلَّ السلسلة تمتد والنطاق يتوسَّع، إذا لم يجد هؤلاء مَن يردعهم، وينبري مَن يوقفهم عند حدِّهم.

إنَّ أصحاب الهيئات والحسينيات والمواكب في العالم الشيعي ليسوا حزباً ولا يخضعون لإمرة، بل يعيشون حرية تامة واستقلالية مطلقة… والرهان دائماً وأبداً في تمييز الغثِّ من السمين، على حسِّ المسؤولية الشرعية والدور العقائدي الرسالي الذي يضطلعون به. وتنشأ المشكلة عند الفوضى والتفلُّت، والصعود المريض لنكرات وتولي الصبيان زمام الأُمور، مما يكون على حساب الشعائر ومن رصيدها، فتبدأ سوق المغالاة والمزايدات، ويقع الخلط في حدود المقدَّسات، والفوضى في طرق وأُصول العزاء، حتى يبلغ الأمر التراقص والموسيقى والهتك الذي نشهده ونعاني جميعاً من ويلاته، وهي مظاهر وجدَت فسحتها واقتنصت فرصتها من تلك الفوضى، وفي ضوء تراجع موقع العلماء الأُمناء، لصالح الصبيان، فتغلب الدعاية التي تكرِّس الشخص، وتروج الصوَر المتأنقة بالغُرر، والشعور البراقة المسرَّحة بالدهون، والأزياء المبتكرة لأثواب الشهرة، وتوزيع الابتسامات واتخاذ “البوزات”… من هنا كان لا بدَّ من وقفة، قد تكون قاسية بعض الشيء، ولكنه مبضع الجراح الذي يشكِّل العلاج، ويحمل ـ إن شاء الله ـ الشفاء، بكل ما يصاحبه من ألم، ولا سيما حين تكون الجراحة دون تخدير.

وعلى الرغم من أنني أقدِّر عالياً التوجيهات والنصائح التي بلغتني من بعض الشباب المخلص، وأعدهم بمراجعة الأسلوب واللين والحسنى في الخطاب… ولكني لا أملك إلا أن أصارحهم بأن الشعائر الحسينية حمىً دونه النفس والنفيس، لا يقبل مساومة ومجاملة، وهو ميدان له أربابه وأصحابه ورجاله الحقيقيون، وأنا أقلُّهم، وخادم لأصغرهم، ومن هنا أدعو إخوتي الكرام وأبنائي الأعزاء إلى الإرتقاء في الجانب العلمي والمعرفي والثقافي، والأخذ بما ينمي الوعي ويذكي البصيرة، عبر النهل من الأحاديث الشريفة والمطالعة في نتاج العلماء الأبرار، ما يخلق فيهم حسّاً ويبعث مَلكة تمكِّنهم من تمييز الأشخاص وتعينهم على تشخيص الموارد والحالات، وتستنقذهم من السرَّاق المتاجرين بهم والمستأكلين بدينهم وولائهم…

وأدنى ذلك أن يفهموا أنَّ وصف الشعر بالبعر، جناس ناقص يراد به التعريض بهبوط مستوى الشعر، وهو استعمال مبذول متداول في محلِّه، لا يستوحش منه إلا غريب عن المطالعة، ولا يستنكره إلَّا من نشأ على مهاترات الفيسبوك وسوقيَّاته، وهو يصحُّ ولا يُستهجن وإن جاء في أقدس المقدسات، كما جعل الحديث الشريف الصلاة (وهي عمود الدين) نقراً كنقر الغراب، في معرض إدانة المستخف أو المتهاون بها.

على المؤمنين الكرام أن يفهموا أنَّ التقدمة في ميدان العزاء الحسيني يجب أن تكون في قمة الكمال، وأن يكونوا كهابيل في عطائهم لا قابيل، فيرفعوا لمولاهم الأفضل والأكثر جودة وإتقاناً. وأن لا يخلطوا بين العبادة الشخصية الخاصة والأُخرى الشعائرية العامة، فإذا كان المولى عليه السلام يقبل بعطفه وشفقته من مواليه وعُشاقه الناقصَ والمَعيب، وأنك لا يجب أن تكون نموذجياً وكاملاً حتى تكون مقبولاً، فإن هذا على الصعيد الشخصي والحالة الخاصة التي يعيشها الفرد، وينقطع فيها المؤمن إلى إمامه، ينشد له ما نظم وإن كان ركيكاً، ويخاطبه بلغته العامية المليئة بالأخطاء، ويقرأ له المراثي بصوته النشاز، ويبكيه ويجزع على مصابه ما شاء، ليلاً ونهاراً، في عاشوراء وغيره وعلى مدار العام… له ذلك، وله الأجر العظيم عليه، بل هو من فعل الكُمَّل الذي لا يناله إلا ذو حظ عظيم.

أما الحالة الشيعية العامة، والنطاق الذي تتحرك فيه المسيرة، وتمضي فيه الشعيرة، فهو محكوم بضوابط، ومقنن بآداب وأعراف، وله شرائط ومواصفات، ليس للصبيان تغييرها، ولا  للدخلاء والنكرات تجاوزها، ولن نسمح للأعداء بهدمها وتقويضها… فمن أراد أن يكون ناعياً عليه أن يلتزمها، ولا يقحم الحمى ويتطفَّل عليه بما يهتكه ويشينه ويزري به، فيكون مضحكاً وباعثاً على السخرية والاستهزاء، فنحن في حرب ومعركة دائمة، والعدو يرصد علينا الأخطاء ويحصي الزلات، ولا سيما مع هذا الفضاء المفتوح، وقبل أن يفعل العدو، فشأن القضية ومنزلتها تقتضي هذا الالتزام. ولا يستوحشن أحد من سبل الخدمة الحسينية وأبوابها، فهي مشرعة للجميع، ولربِّ خادم صغير يغسل أقداح الشاي، وآخر يرتب الأحذية ويسويها عند مدخل الحسينية، يبلغ من العظمة ما يرضي عنه مخدومه الأعظم، وكفى. ولعل هذا الحرص على الإنشاد والاندفاع فيه، على الرغم من افتقاد فنه والعجز عن أداء حقِّه، هو ملاك وضابطة تكشف الثكلى من المستأجرة، ومَن يعيش القضية الحسينية حقاً ممن قحمها طلباً للشهرة وتسلَّق أسوارها وتطفَّل عليها تهالكاً على الظهور، واستماتة في الصيت والسمعة.

وأختم بموعظة ملكوتية وحكمة عرشية: “إن قدرتم أن لا تُعرفوا فافعلوا، وما عليك إن لم يثن عليك الناس؟ وما عليك أن تكون مذموماً عند الناس إذا كنت عند الله محموداً”. وبعد، إخوتي الكرام، ثقوا أن من ينهاكم عن الصلاة في حرم رقية عليها السلام، لأن حرمها جنة، والجنة لا صلاة فيها!.. هو شيطان أو دابة شيطان.

التعليقات